تابع الجزء التانى ولاد العم سام

يهود الجزيرة

ففي مكة استغل بني إسرائيل طبيعة البلد المتقبل للأجناس المتعددة وخلقوا شبكة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية، وفي يثرب كانت لهم السيطرة الكاملة أولا، حتى بعد هجرة قبيلتا الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب. ثم بعد ذلك وقع زعيم الجماعة اليهودية في حماقة بالغة إذ أمر كل من يتزوج من عرب المدينة أن يرسل الزوجة إليه أولا، مما دفع مالك بن عجلان -أحد فرسان الخزرج- لقتل ذلك الزعيم اليهودي، ثم تحالفت القبيلتان على يهود يثرب وأنهننا سيطرتهم عليها تمامًا، لتدخل عهدًا من السيطرة العربية الخالصة، التي شابتها بعض الصدامات مع قبائل اليهود أحيانًا، وبعض التحالفات أحيانًا أخرى بحكم الجيرة الدائمة.
أما اليمن حيث كانت تقوم دولة "حِميَر"، فقد اعتنق الكثيرون اليهودية، بل اعتنقها ملك الحميريين يوسف ذو نواس، وبذلك دخلت في الديانة اليهودية عناصر من غير بني إسرائيل، وكادت تقوم دولة يهودية جديدة، لولا أن قام ذو نواس باضطهاد وتعذيب النصارى، وقام بحفر أخدود أشعل فيه النيران التي ألقى فيها نصارى مدينة نجران (أصحاب الأخدود)، مما دفع بعض النصارى للاستغاثة بإمبراطور بيزنطة المسيحية، وكذلك بنجاشي الحبشة المسيحي أيضًا، فقاما بإرسال حملة مشتركة لغزو اليمن، قامت بهزيمة جيش ذو نواس وقتله، ومنذ ذلك الوقت أصبح اليمن تحت الحكم الحبشي، حتى جاء سيف بن ذي يزن -اليمني اليهودي- وتحالف مع الفرس وطرد الأحباش وحكم اليمن تحت سلطة كسرى.
اليهود من واقع تجاربهم الحربية المتكررة أدخلوا لبلاد العرب فكرة بناء الحصون، ربما لا يكونون أول من أدخلها، لكنهم أكثروا من بنائها بالذات في المدينة وخيبر، هذا بالنسبة للبنيان.. أما عن التجارة فقد مارسوا الإقراض بالربا -بالذات في يثرب- التي اشتهر يهودها بصياغة الذهب وإقراضه بأجر والإتجار فيه، وكذلك عُرِفوا بصنع السلاح وبيعه، ومارس قسم كبير منهم الزراعة، التي لم يكن العربي القديم يميل إليها كثيرًا، فأصبح لهم ثقل اقتصادي كبير في جزيرة العرب. أما من الناحية الثقافية فقد كان لأحبارهم وكهانهم احترام سادات العرب الذين سموهم "أهل الكتاب"، لِمَا لهم من علم بالتوراة وكتب الأنبياء. حتى إن العرب كانوا أحيانًا يطلبون منهم التحكيم بينهم، وأحيانًا أخرى كانوا يهتمون بالاستماع لنبوآتهم، بالذات تلك التي كانت تبشر بالبعثة المحمدية، حتى إن بعض العرب حرصوا على تسمية أبنائهم بـ"محمد" على أمل أن يكون النبي المنتظر منهم، وفي يثرب، كانت المرأة التي لا يعيش لها ذكور، تنذر أنها إن أنجبت ذكرًا تهوده وترسله ليهود يثرب لينشأ بينهم.
في ذلك الوقت كان اليهودي يعيش كعربي مئة بالمئة، فكان يتحدث العربية ويتخذ الأسماء العربية له ولأولاده، ويقول الشعر ويمارس الفروسية والتجارة ويطالب بالثأر ويعقد التحالفات، تمامًا كأي عربي. وعلى عكس الشائع اشتهر اليهودي العربي بنفس صفات العرب من كرم وشجاعة وإغاثة للملهوف. صحيح أن اليهود كجماعة بشرية تدرك أنها أقلية وسط مجتمع عربي كانوا يمارسون جمع المال وتكنيزه بحرص شديد بلغ حد الجشع الفاحش، لكن هذه كانت ومازالت سمة عامة لأية أقلية بشرية تخشى على مستقبلها وسط جماعة بشرية كبرى.
اضطهاد

وبينما عاش يهود الجزيرة في أمانٍ، كانوا في الشام يتعرضون لأعتى أنواع الاضطهاد والتعذيب، فهرقل إمبراطور الروم تنبأ له منجموه أن زوال ملكه يكون على يد شعب مختون، في ذلك الوقت لم يكن يُختَن سوى العرب واليهود؛ ولأن العرب كانوا في نظر هرقل أضعف من أن يجتاحوا ملكه، فقد حَسِب أن اليهود هم المقصودون بالنبوءة، فانهال عليهم قتلا وتعذيبا، وأخذ يُلقِيهم في ساحات المصارعة للأسود، أو للمصارعين الذين كانوا يمارسون المصارعة حتى الموت.
النبوءة

ووسط كل تلك الأحداث الجسيمة هنا وهناك، وفي يوم من آخر عشرة أيام من شهر رمضان، فوجئ الناس بسيل من الشُهُب ينهال من السماء، فهرعوا إلى أحد كهانهم يسألونه عن هذا فقال: "إن كان ما يسقط هو مَن ما يستدل به الناس من النجوم في سفرهم، فهو زوال الدنيا والله، وإن كان غير ذلك فهو أمر جلل حدث". في ذلك الوقت كان أحبار اليهود يقفون على أسطح حصونهم في المدينة، ينظرون في السماء حينًا وفي التوراة أحيانًا، يتذكرون نبوءة موسى، يتبادلون النظرات التي تقول نفس العبارة: "اليوم بُعِثَ محمد".
(يُتبَع)


المصادر:

-1- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبدالوهاب المسيري.
-2- اليهود في تاريخ الحضارات الأولى: جوستاف لوبون.
-3- البداية والنهاية: ابن كثير.
-4- تاريخ اليهود في بلاد العرب: د.إسرائيل ولفنسون.
-5- اليهود في العالم العربي: د.زبيدة محمد عطا.
-6- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن.
-7- أنبياء الله: محمد متولي الشعراوي.
-8- الشرق الأدنى في العصرين الهللينيستي والروماني: د.أبو اليسر فرح.
-9- المفصل في تاريخ القدس: عارف العارف.
-10- موسوعة الحروب: هيثم هلال